ولدت سعدية باضيف في بيئة فقيرة، وغنّت الثورة والنشوة، وبقيت ممنوعة في بلادها، بتهمة «الإباحيّة». عودة إلى «الشيخة» التي رافقت نصف قرن من تاريخ الجزائر
سعيد خطيبي
في الثامن من أيار (مايو) 2006، احتفلت الشيخة ريميتي (1923 ـــــ 2006) بعيد ميلادها الثالث والثمانين. اختلت بنفسها واستعادت شريط الذكريات، فوجدت محطات السعادة قليلة في ذاكرة امرأة صنعت تاريخ جيل كامل من الجزائريات.
13 أيار 2006، في حدود الساعة الحادية عشرة مساءً، صعدت الشيخة ريميتي خشبة مسرح الـZenith الباريسي لتغني أمام حشد في حفلة حملت عنوان «راي مئة في المئة» وإلى جانبها الشاب خالد، والشاب عبدو، والشاب خلاص. بعدما نزلت درج المنصّة ببطء، شعرت بالتعب. كان قلبها المثقل بهموم نصف قرن من التيه ينبض بسرعة. لكنّ السيّدة الثمانينية بقيت متشبثة بالحياة التي غنّتها بكثير من الفرح ونشوة الحواس.
14 أيار 2006، توجهت الشيخة ريميتي إلى «جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى» SACEM في باريس بغية تلقّي حقوق الحفلة. أتمّت الإجراءات الإدارية وعادت إلى بيتها بخطى متثاقلة. أمضت النهار مستلقيةً على السرير تتأمل فوضى العالم.
صباح الاثنين 15 أيار 2006، توقّف قلب الشيخة ريميتي عن الخفقان. أراد القدر أن تلفظ أنفاسها في بيتها الباريسي. بعد يومين على رحيلها، رثتها جريدة «لوموند» الفرنسيّة وكتبت: «رحلت «أم الراي» التي غنّت ورافقت تاريخ الجزائر على امتداد نصف قرن».
رغم نجاحها الموسيقي الواسع، لم تكن ريميتي تحب الأضواء كثيراً. امتنعت عن الظهور في التلفزيون والصحف والمحطات الإذاعيّة إلا نادراً. وحين تكلمت، كان حديثها يقتصر على الموسيقى. أصرّت طوال حياتها على الاحتفاظ بلهجتها الوهرانية المميّزة وبنبرتها الهادئة. ابنة تسالة (ولاية سيدي بلعباس وسط غرب الجزائر) عرفت حياة البؤس صغيرةً. يوميات الغجر والسفر والترحال، علّمتها الإصغاء المديد والاكتفاء بما قلّ من الكلام. كانت تردّد دائماً: «الشقاء علّمني الكثير، الاحترام، والحشمة... والغناء».
ولدت سعدية باضيف ـــــ الاسم الأصلي للشيخة ريميتي ـــــ في 8 أيار (مايو) 1923، وعاشت حياة غير مستقرة، تتنقل من منطقة إلى أخرى. أولى موجات الترحال قادتها في الخامسة عشرة إلى مدينة غليزان المجاورة، حيث عملت في «مهن بسيطة جداً»، كما قالت في أحد اللقاءات النادرة. «كنت أجمع التين، وأحياناً الزيتون وسنابل القمح». منحتها تلك الفترة إرادة في مواجهة تحديات الحياة وثقة كبيرة بالذات. بدأت في ذلك الحين تؤدّي بعض قصائد الملحون، وتشارك في الغناء أثناء الأعراس العائلية والوعدات (احتفالات دينية تستمر أحياناً أسبوعاً كاملاً).
شتاء 1945، كانت الحرب العالمية الثانية تكاد تضع أوزارها. لم تسلم الجزائر ـــــ باعتبارها في ذلك الحين امتداداً لسطوة الحلفاء ـــــ من الأزمة الاقتصادية. في ظلّ تلك الظروف القاسية، وجدت سعدية نفسها تعيش الفاقة بشتى أنواعها، وتبيت في العراء على الطوى. لم يدم ذلك طويلاً، إذ تعرّفت إلى رجل يكبرها بأربع سنوات، ويعزف على آلة القصبة، ويقاسمها شغف الغناء. كان هذا الشيخ محمد ولد النمس الذي منحها فرصة دخول عالم الكباريهات راقصةً. وفي مطلع الخمسينيات، لحّن أول أعمالها وأهمها: إنّها الأغنية الشهيرة «هاك السرّة هاك» التي تُعدّ أول أغنية إيروتيكية في مسار الأغنية البدوية. أغنية شرّعت لها أبواب الشهرة على مصاريعها ومنحتها لقب «الشيخة ريميتي» في أحد كباريهات وهران.
التنقل بين الكباريهات، من غليزان إلى وهران ثمّ الجزائر العاصمة، منح ريميتي شهرة واسعة. في الخمسينيات كانت تُعدّ أكثر النساء جرأة في طرح القضايا والهموم النسائية. وكانت الإذاعة الجزائرية، الخاضعة للسلطة الكولونيالية، تبث على فترات متواصلة بعض المقاطع من أهم أغانيها المسجلة في الحفلات والسهرات التي أظهرت تأثّرها بشيوخ تلك المرحلة أمثال الشيخين حمادة والمداني.
في عام 1952، بينما كانت الجزائر تقف على صفيح ساخن، كانت ريميتي تستعد، بالتعاون مع شركة الإنتاج الفرنسية العريقة Pathé-Marconi، لإطلاق أسطوانتها الأولى تحت عنوان «الراي الراي». لكنّ العمل لم يلق الرواج المطلوب. ألبومها الثاني «شرك قطع» (1954) وضع الشيخة ريميتي على عرش الأغنية الجزائرية. لكنّه أثار حفيظة مسؤولي «جبهة التحرير الوطني»، فمنعت منذ عام 1962 حتى وفاتها من الغناء في الجزائر، أو حضور الحفلات العامة فيها. لكنّ ريميتي كانت تردّد دوماً: «إنّ «جبهة التحرير الوطني» و«جيش التحرير الوطني» لم يكونا ملزمين بالتواصل معي وإبلاغي ضرورة الانخراط في صفوف الثورة. شرعت منذ اندلاع الثورة في الغناء من أجل جزائر حرّة مستقلة (...). بالنسبة إلى جيل الشيوخ حمادة والمداني وبوراس، كان خيار المقاومة المسلحة مبدأً. كنّا نتابع بجدية وحماسة أيضاً الخطابات الوطنية التي يطلقها مصالي الحاج آنذاك. الشيخ المداني كان يكتب متأثراً بتلك الحقبة، كذلك أذكر أنّ الشيخة خيرة قنديل سبقتني في مسعى مواجهة القوة الكولونيالية والغناء من أجل الجزائر».
رأى بعضهم في أغنية «شرك قطع» «بياناً لتفسّخ الأخلاق وانحلال قيم المجتمع الجزائري»، فيما تقبّلها كثيرون باعتبارها أغنية تعكس واقعاً وتعبّر عن حالة معيشة. تبعها ألبومان آخران هما «الحمام» و«دابري دابري». لم تحدّ التهديدات والمضايقات من جرأة الشيخة ريميتي وشجاعتها، وواصلت الغناء وتسجيل الألبومات بعد فترة الاستقلال...
في صيف 1970، غضبت الشيخة ريميتي حين علمت أنّ مجموعة من مغنّي الراب الشباب أعادوا أداء أشهر أغانيها عبر حفلات مختلفة في فرنسا من دون إذنها. واشتد غيظ ريميتي حين سمعت أن مغنية شابة بدأت تحقق نجاحاً من خلال تقمّص لقب «الشيخة ريميتي الصغيرة». هكذا، قررت الاستقرار في فرنسا مطلع عام 1978.
مسألة سرقة أغانيها كانت تؤثّر فيها كثيراً. كانت تقول: «لا ينزل عليّ الوحي لأكتب كلمات أغانٍ كل يوم. أنا أخرج وأمشي وأتعب وأمرض كي أبلغ القدرة على كتابة الأغنية. ولو كان الأمر بالسهولة التي تتوقعونها، لكنّا جميعنا مغنيّن ومشاهير». كانت ريميتي تردد دائماً: «أنا لا أعرف قلماً ولا ورقة»، وكانت تحفظ وترسم الكلمات في ذاكرتها وتعيد تأديتها لاحقاً وفق لحن يتناغم مع الفحوى.
الشيخة ريميتي التي عانت شعوراً كبيراً بالغربة، تركت ما لا يقلّ عن مئتي أغنية من عيون الراي... أعاد كثيرون اكتشافها مع انتشار موجة الراي في الثمانينيات على يد جيل جديد من الفنانين الجزائريين. وأهداها رشيد طه أغنية تحمل اسمها. كانت تصرّ على أن تظهر يداها في صور التي تلتقط لها... «أحمل يديّ للدّعاء» كانت تقول. رحلت وهي تردد مقولتها الشهيرة «أنا كحلة وفحلة ونجيب العشاء في نهار المحنة». واتخذتها النساء رمزاً ومثلاً أعلى. كانت تدعو أيضاً بالرحمة على الذين مهدوا الطريق أمامها على غرار فضيلة الدزيرية، ومريم فكاي، وحمادة، والمداني، ودحمان الحراشي وغيرهم...
remettez
في إحدى الحانات التي احتضنت بداياتها، كانت سعدية باضيف كلما فرغت كأسها تطلب من النادل بالفرنسيّة أن يصبّ لها من جديد، فتقول بلكنتها الجزائريّة: «remettez». هكذا لقّبها الناس من حولها بـ«ريميتي». ثم صارت الشيخة ريميتي التي نذكر من ألبوماتها الشهيرة منها «سيدي منصور» (1994)، و«نوار» (2000)، و«سلام مغرب» (2001) وأخيراً ألبوم «أنت قدامي» (2005) الذي مثّل قفزة موسيقيّة من خلال إدراج أنماط عزف معاصرة مع تسجيل حضور عازف الڤيتارة البريطاني المعروف روبير فريب.